تايوان وTSMC الغنيمة.. العالم يقترب من حرب الرقائق الإلكترونية

يبدو أن العالم على أعتاب صراع جديد، لكن هذه المرة ليس بالدبابات أو القنابل، بل بشرائح إلكترونية أصغر من ظفر إصبعك، هذه الرقائق، أو السيليكون، هي العمود الفقري للعالم الحديث، تشغل كل شيء من الهواتف الذكية إلى السيارات، وحتى الصواريخ وأنظمة الذكاء الاصطناعي.
وفي قلب هذا الصراع التكنولوجي تقع جزيرة صغيرة اسمها تايوان، موطن شركة TSMC، أكبر منتج للرقائق المتقدمة في العالم، والتي تسيطر على أكثر من 90% من إنتاج هذه الرقائق، جزيرة تطالب بها الصين كجزء من أراضيها، أصبحت مركز صراع جيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين، مع تداعيات قد تعيد تشكيل الاقتصادات العالمية، بما في ذلك الدول العربية والشرق الأوسط.
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2025، وتصريحاته العدوانية تجاه الصين، ودخول إسرائيل كلاعب جديد في سباق الرقائق، يبرز السؤال: أين تقف الدول العربية من صراع الرقائق الألكترونية؟
هذا التقرير عبر سمارت فاينانس يغوص في تفاصيل "حرب الرقائق الإلكترونية"، مستعرضًا دور تايوان الحاسم، التنافس الأمريكي-الصيني، طموحات إسرائيل، والتداعيات على الشرق الأوسط. كما يتناول ما إذا كانت سياسات ترامب ستُنهي هيمنة الصين أو ستُشعل صراعًا كارثيًا.
أهمية الرقائق الإلكترونية
الرقائق الإلكترونية هي المحرك الخفي للعالم الحديث. تعتمد عليها الصناعات التالية:
- الإلكترونيات الاستهلاكية مثل الهواتف الذكية، الحواسيب، والساعات الذكية تحتاج إلى رقائق متقدمة للأداء.
- صناعة السيارات، فالسيارات الحديثة تستخدم رقائق للتحكم في المحركات وأنظمة القيادة الذاتية.
- الأنظمة الدفاعية من الصواريخ، الطائرات بدون طيار، والمقاتلات الشبحية تعتمد على رقائق عالية الأداء.
- أنظمة الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى رقائق متخصصة لمعالجة كميات هائلة من البيانات.
- البنية التحتية مثل البنوك، الاتصالات، وحتى إضاءة LED تعتمد على الرقائق.
تبعات اضطراب سلاسل توريد الرقائق
أي اضطراب في سلاسل توريد الرقائق قد يوقف الصناعات، يرفع الأسعار، ويزعزع استقرار الاقتصادات، وقد كشفت جائحة كورونا هذا الضعف عندما تسبب نقص الرقائق في تعطيل تصنيع السيارات وتأخير إنتاج الإلكترونيات عالميًا، وعليه تساهم هيمنة TSMC—التي تنتج 65% من الرقائق العالمية و90% من الرقائق المتقدمة في أن تجعل تايوان محورًا أساسيًا في هذا النظام، فمن يسيطر على TSMC يملك مفتاح التكنولوجيا والقوة.
تايوان وTSMC.. مركز الصراع
تايوان، أو جمهورية الصين، هي جزيرة صغيرة بمساحة 35,808 كيلومترات مربعة وسكان يبلغ عددهم 23.9 مليون نسمة، ورغم صغرها، فإن دورها الاقتصادي العالمي هائل بفضل TSMC، أكبر وأحدث مصنّع للرقائق في العالم.
تأسست TSMC في 1987، وغيّرت قواعد اللعبة ببناء نموذج التصنيع المستقل، حيث تركز على إنتاج الرقائق بينما تترك تصميمها لشركات مثل Apple وNvidia وQualcomm، مما جعل TSMC لا غنى عنها، إذ تنتج مصانعها في تايوان الغالبية العظمى من الرقائق المتقدمة عالميًا.

كيف ترى الصين وأمريكا «تايوان»
ترى الصين تايوان كإقليم متمرد وتتعهد بإعادة توحيدها، بالقوة إذا لزم الأمر، فقد كرر الرئيس شي جين بينغ التأكيد على "إعادة التوحيد" كهدف أساسي، مما يثير مخاوف من غزو محتمل. مثل هذه الخطوة لن تعطل فقط إمدادات الرقائق العالمية، بل ستمنح الصين السيطرة على تكنولوجيا TSMC المتطورة، وهو سيناريو تعتبره الولايات المتحدة كابوسًا استراتيجيًا.
فقد عززت الولايات المتحدة، في عهدي ترامب وبايدن، دعمها لتايوان من خلال 3 محاور رئيسية:
- الدعم العسكري عبر تزويد تايوان بالأسلحة ونشر قوات بحرية في مضيق تايوان لردع الصين.
- الزيارات الدبلوماسية من مسؤولين أمريكيين كبار، مثل رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي في 2022، أثارت غضب بكين.
- الضغط الاقتصادي عبر تشجيع TSMC على بناء مصانع في الولايات المتحدة، مثل مصنع بقيمة 12 مليار دولار في أريزونا، لتقليل الاعتماد على تايوان.
- هذا التصعيد حوّل التنافس الأمريكي-الصيني إلى حرب باردة "ساخنة"، حيث التوترات علنية والمخاطر عالية، فالغزو الصيني لتايوان قد يوقف إمدادات الرقائق لسنوات، مما يتسبب في فوضى اقتصادية وربما صراع أوسع.
الحرب الأمريكية-الصينية على الرقائق
ما يثير الانتباه، أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين حول الرقائق ليس فقط عن تايوان، بل عن الهيمنة التكنولوجية، فالولايات المتحدة تهيمن منذ فترة طويلة على تصميم الرقائق والبرمجيات، لكن قدرتها التصنيعية تقلصت إلى 12% فقط من الإنتاج العالم، ففي المقابل، استثمرت الصين بكثافة في صناعة الرقائق، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي بحلول 2030.

استراتيجية واشنطن.. الاحتواء وإعادة التصنيع
تبنت الولايات المتحدة نهجًا متعدد الأوجه لمواجهة صعود الصين:
- قانون CHIPS Act
صدر في 2022، وخصص أكثر من 50 مليار دولار لتعزيز إنتاج الرقائق محليًا، بتمويل شركات مثل Intel وMicron لبناء مصانع في ولايات مثل أريزونا وأوهايو. كما يدعم توسع TSMC في الولايات المتحدة، مع مصنع جديد في أريزونا سيبدأ إنتاج رقائق متقدمة بحلول 2025.
- ضوابط التصدير:
فرضت الولايات المتحدة قيودًا صارمة على تصدير تكنولوجيا الرقائق المتقدمة إلى الصين، مستهدفة شركات مثل Huawei وSMIC. في 2020، حظرت إدارة ترامب بيع الرقائق المصنوعة بتكنولوجيا أمريكية لهواوي دون تراخيص خاصة، مما أضعف أعمالها في الهواتف الذكية.
- ضغط الحلفاء:
ضغطت الولايات المتحدة على حلفاء مثل اليابان، كوريا الجنوبية، وهولندا (موطن ASML، الشركة الرائدة في تصنيع آلات الطباعة الضوئية لإنتاج الرقائق) لتقييد وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة. آلات ASML ذات الأشعة فوق البنفسجية (EUV)، الحاسمة لصناعة الرقائق المتطورة، ممنوعة الآن عن الشركات الصينية.
هذه الإجراءات تهدف إلى خنق طموحات الصين التكنولوجية، لكنها أثارت رد فعل قوي.
رد الصين.. الاكتفاء الذاتي والرد
سارعت الصين في دفعها نحو الاكتفاء الذاتي في الرقائق عبر 3 محاور وهي
- الاستثمار المحلي:
ضخت بكين مليارات الدولارات في شركات مثل SMIC وHuawei لتطوير تكنولوجيا رقائق محلية. في 2023، فاجأت هواوي العالم برقاقة 7 نانومتر لهاتفها Mate 60 Pro، متحدية العقوبات الأمريكية ومظهرة تقدمًا نحو الاكتفاء الذاتي.
- سلاسل توريد بديلة:
تستثمر الصين في دول مثل فيتنام والهند لتنويع سلاسل التوريد، مما يقلل اعتمادها على التكنولوجيا التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
- النفوذ الجيوسياسي:
استخدمت الصين نفوذها الاقتصادي لمواجهة الضغط الأمريكي، مع تعميق العلاقات مع دول الجنوب العالمي.

ترامب.. تصعيد أم تهدئة؟
أضافت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حالة من عدم اليقين إلى حرب الرقائق، فخلال ولايته الأولى، اتخذ ترامب موقفًا متشددًا ضد الصين، مفروضًا تعريفات جمركية، معاقبًا شركات التكنولوجيا الصينية، ودافعًا لنقل إنتاج TSMC إلى الولايات المتحدة، ويبدو أن تصريحاته في 2025 تشير إلى نهج أكثر عدوانية:
- التعريفات والتهديدات:
فرض ترامب تعريفات جمركية بنسبة 25% على الواردات، بما في ذلك الرقائق، لإجبار الشركات على التصنيع في الولايات المتحدة، قد يؤدي هذا إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية ورفع تكاليف المستهلكين.
- سياسة تايوان:
أشار ترامب إلى تقليص الدعم العسكري لتايوان، مقترحًا أن تدفع تايوان مقابل "الحماية"، هذا أثار قلق تايبيه، حيث تعتمد TSMC على الدعم الأمريكي كدرع جيوسياسي. ومع ذلك، يظهر دفع إدارته لإنتاج TSMC لرقائق متقدمة في الولايات المتحدة رغبة في تأمين سلاسل التوريد محليًا.
- التركيز على الصين:
يرى ترامب الصين كتهديد رئيسي للهيمنة الأمريكية، وسياسته "أمريكا أولاً" قد تجهد العلاقات مع الحلفاء، مما يدفع دولًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية للبحث عن مسارات مستقلة في سباق الرقائق.
بينما يزعم ترامب أنه يريد تجنب الحروب الجديدة، فإن سياساته قد تؤدي إلى تصعيد التوترات. خطأ في الحسابات—مثل تقدير صيني خاطئ بشأن تايوان أو رد فعل أمريكي مبالغ فيه، قد يشعل صراعًا بتداعيات مدمرة.
دور إسرائيل .. لاعب جديد على الساحة
إسرائيل، القوة التكنولوجية، تسعى لتكون لاعبًا في صناعة الرقائق. مع وجود شركات مثل إنتل التي تدير مصانع رقائق كبرى في إسرائيل ونظام بيئي قوي للشركات الناشئة، تسعى البلاد للاستفادة من النقص العالمي في الرقائق:
- وجود إنتل: مصنع إنتل في كريات جات ينتج رقائق متقدمة، والشركة تستثمر 25 مليار دولار لتوسيع عملياتها، جزئيًا لتنويع الإنتاج بعيدًا عن تايوان.
- الاستراتيجية الجيوسياسية: ترى إسرائيل حرب الرقائق كفرصة لتعزيز أهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة والحلفاء الغربيين. من خلال تعزيز قدراتها في الرقائق، يمكن لإسرائيل سد الفجوات في سلاسل التوريد إذا توقف إنتاج تايوان.
- التأثير الإقليمي: قد تؤدي طموحات إسرائيل التكنولوجية إلى تفاقم التوترات مع الجيران العرب، خاصة إذا استفادت من صناعة الرقائق لكسب مزايا اقتصادية أو عسكرية.
ومع ذلك، فإن تورط إسرائيل معقد بسبب نزاعاتها المستمرة، خاصة في غزة ومع حزب الله، مما قد يصرف الموارد والاهتمام عن أهدافها التكنولوجية.
العالم العربي بين المطرقة والسندان
تواجه الدول العربية والشرق الأوسط مخاطر وفرص كبيرة في حرب الرقائق، تتمثل في 4 نقاط:
- الضعف الاقتصادي
تعتمد المنطقة بشكل كبير على الإلكترونيات المستوردة للبنوك، الصناعة، والأمن. اضطراب في إمدادات الرقائق—بسبب صراع في تايوان أو الحواجز التجارية بين الولايات المتحدة والصين—قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، توقف المصانع، وعدم استقرار اقتصادي. على سبيل المثال، قد يتوقف قطاع السيارات في دول مثل مصر والمغرب بدون رقائق.
- تواصل الصين:
قد ترى الصين الشرق الأوسط كشريك استراتيجي، خاصة لإمدادات الطاقة وكسوق لرقائقها. الدول الغنية بالنفط، مثل السعودية والإمارات، قد تصبح لاعبين رئيسيين في سلاسل التوريد البديلة للصين. وساطة الصين في المصالحة بين إيران والسعودية في 2023 تظهر نفوذها الدبلوماسي المتزايد في المنطقة.
- الضغط الأمريكي:
تواجه الدول العربية ضغوطًا كبيرة للانحياز إلى الولايات المتحدة، التي قد تطالب بتقييد صادرات التكنولوجيا إلى الصين أو استضافة منشآت رقائق مدعومة من الولايات المتحدة. قد يؤدي هذا إلى توتر العلاقات مع الصين، الشريك التجاري الرئيسي لدول الخليج.
- فرص النمو:
تستثمر بعض الدول العربية، مثل الإمارات والسعودية، في الصناعات التكنولوجية. تمتلك شركة مبادلة للاستثمار في الإمارات حصصًا في شركات رقائق مثل GlobalFoundries، مما يضعها في موقف للاستفادة من سباق الرقائق. رؤية السعودية 2030 تهدف إلى تطوير قطاع تكنولوجي محلي، قد يشمل تصنيع الرقائق.
السيناريو الكارثي .. ماذا لو اشتعلت الحرب؟
ما لا يخفى عن العيان هو أن أي صراع شامل حول تايوان سيكون كارثيًا بمعنى الكلمة، مما قد يحدثه من انهيار اقتصادي مدوي مما يعطل الصناعات العالمية، من الهواتف الذكية إلى الأنظمة الدفاعية.
إضافة إلى أن التصعيد العسكري، قد يجذب صراع تايوان الولايات المتحدة، اليابان، وحلفاء آخرين، مما يتصاعد إلى حرب أوسع، فالقوة البحرية المتزايدة للصين وقدراتها النووية تجعل هذا سيناريو عالي المخاطر.
أما شرق أوسطيًا، ستواجه الدول العربية ارتفاعًا صاروخيًا في تكاليف الإلكترونيات، اضطرابات في الطاقة (إذا استفادت الصين من علاقاتها النفطية)، وتهديدات أمنية محتملة إذا استغل لاعبون إقليميون مثل إيران أو إسرائيل الفوضى.
ومع حرب رقائق طويلة الأمد قد تؤدي إلى تقسيم الاقتصاد العالمي، مع نظامين تقنيين منفصلين بقيادة الولايات المتحدة والصين، مما يجبر دول الشرق الأوسط على التنقل في عالم منقسم، فحتى بدون حرب، فإن القيود التجارية والتكنولوجية المستمرة قد تؤدي إلى اقتصاد عالمي منقسم، مما يضع الدول العربية في موقف صعب.
وتذكرنا حرب الرقائق بأن القوة في العالم الحديث ليست فقط في النفط أو الأرض—بل في السيليكون. إذا اشتعلت الشرارة في تايوان، فقد تجتاح التداعيات العالم، دون أن تترك الشرق الأوسط بمنأى عنها.