بين السياسة النقدية والإنتاج المحلي.. مفاتيح استدامة تراجع التضخم في مصر

يشير التراجع في معدل التضخم العام للحضر في مصر خلال شهر يونيو 2025 إلى 14.4% مقابل 16.8% في مايو، إلى تحول ملحوظ في منحنى الأسعار وتراجع الضغوط التضخمية التي أثقلت كاهل الاقتصاد والمواطن على مدار الأشهر الماضية، وهذا الانخفاض يعكس نجاحًا نسبيًا للسياسات المالية والنقدية في احتواء التضخم، ويطرح في الوقت ذاته تساؤلات جوهرية حول كيفية الحفاظ على هذا المسار الهبوطي وتحقيق الاستدامة في خفض معدلات التضخم.
أدوات السياسة النقدية
من أبرز الأدوات التي ساهمت في كبح التضخم خلال الشهور الماضية السياسة النقدية للبنك المركزي المصري، والتي اعتمدت على رفع أسعار الفائدة لضبط معدلات السيولة في السوق وتقليص الطلب الاستهلاكي.
ومع تراجع معدل التضخم السنوي، قد تتجه لجنة السياسة النقدية إلى إعادة تقييم توجهاتها بشأن أسعار الفائدة، خاصة أن الحفاظ على الاستقرار السعري يُعد الهدف الأساسي لأي بنك مركزي، كما أن هامش التحرك لا يزال مرتبطًا بمدى استقرار المؤشرات خلال الأشهر المقبلة، إذ أن أي تسارع في معدلات التضخم العالمية أو اضطرابات في أسعار الطاقة قد تؤثر على السياسة النقدية محليًا.
استقرار سعر الصرف
يُعد استقرار سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار من المحركات الرئيسية في الحد من التضخم، خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من السلع الاستهلاكية والمواد الخام يتم استيراده من الخارج، وقد ساعد استقرار الجنيه خلال الربع الثاني من 2025 على تقليل تكلفة الواردات، مما انعكس إيجابيًا على الأسعار محليًا.
توقعات استمرار هذا الاستقرار مدفوعة بعدة عوامل، من أبرزها ارتفاع موارد الدولة من النقد الأجنبي، سواء عبر زيادة تحويلات العاملين بالخارج، أو انتعاش قطاع السياحة، أو نمو الصادرات، بالإضافة إلى استثمارات أجنبية مباشرة وغير مباشرة بدأت تتدفق إلى السوق مجددًا، خاصة مع تحسن النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري.
الإنتاج المحلي والطلب
في موازاة العوامل النقدية والتمويلية، فإن زيادة الإنتاج المحلي تظل العامل الأكثر تأثيرًا على المدى المتوسط والطويل، فكلما زاد الإنتاج، وتنوعت مصادر العرض، تراجع الاعتماد على الخارج، وتقلصت الضغوط السعرية الناتجة عن تقلبات السوق العالمي.
الرهان هنا لا يقتصر فقط على المشروعات القومية الكبرى، بل يشمل أيضًا التوسع في دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، التي تمثل أكثر من 80% من النشاط الاقتصادي غير الرسمي، وتشكل قاعدة رئيسية لتوفير السلع والخدمات في الأسواق المحلية، ومن المهم أيضًا العمل على حل المشكلات الهيكلية التي تواجه هذه المشروعات، وتقديم تسهيلات ضريبية، وخفض تكلفة الإنتاج، وتقليل زمن الإفراج الجمركي، مع تسريع آليات التمويل، وتوفير الدعم اللوجستي والإداري.

تقليل الواردات
من التوجهات الاستراتيجية التي تعزز من قدرة الدولة على السيطرة على التضخم، خفض فاتورة الاستيراد عبر تصنيع البدائل محليًا، خاصة في القطاعات التي تمتلك فيها مصر ميزة تنافسية أو قاعدة إنتاجية قابلة للتوسعة، كما أن التحول نحو التسويات التجارية بالعملات المحلية، خاصة مع دول "بريكس" وشركاء التبادل التجاري، يوفر متنفسًا مهمًا في مواجهة تقلبات أسعار الدولار، ويقلل الاعتماد عليه كعملة وسيطة، وبالتالي يُخفف من الضغوط على الاحتياطي النقدي وسوق الصرف.
الأمن الغذائي
من المحاور الأساسية في كبح التضخم، تعزيز الأمن الغذائي المحلي عبر التوسع في مشروعات الزراعة والإنتاج الحيواني، خاصة في المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والذرة وفول الصويا، وتقديم الدعم لصغار المزارعين والمربين، بما يعزز الإنتاج ويقلل من فاتورة الاستيراد.
وتظل الرقابة على الأسواق أداة لا غنى عنها لضبط الأسعار، ومكافحة جشع بعض التجار، وضمان عدم وجود فروقات كبيرة بين التكلفة وسعر البيع النهائي للمستهلك. كما أن استمرار الحكومة في تنظيم المعارض السلعية والشوادر التي توفر المنتجات بأسعار مخفضة، يسهم في خلق توازن سعري وضغط تنافسي يجبر السوق على التعديل.
تراجع التضخم يمثل نقطة إيجابية على مسار الاستقرار الاقتصادي، لكنه يظل هشًا ما لم تتم مواصلة الإصلاحات الهيكلية، وتحقيق التكامل بين السياسات النقدية، المالية، والإنتاجية، مع تبني رؤية شاملة تدعم الإنتاج المحلي وتضمن حماية المستهلك.