حرب من نوع آخر.. كيف انتصرت مصر في معركة الغاز وأمنت احتياجاتها؟

في زمن تتسارع فيه وتيرة التحديات العالمية، تقف مصر كمثال بارز للصمود في مواجهة أزمات الطاقة، ووسط ارتفاع الطلب المحلي على الكهرباء وتراجع إنتاج بعض الحقول المحلية، خاضت مصر معركة من نوع آخر، ليست بالسلاح، بل بالتخطيط الاستراتيجي والتحركات السريعة لتأمين إمدادات الغاز الطبيعي.
وهذه المعركة لم تكن مجرد مسألة اقتصادية، بل حرب حقيقية لضمان استمرارية الحياة اليومية لملايين المصريين، حيث باتت الكهرباء شريان الحياة في عالم يعتمد على التكنولوجيا والصناعة.
وفي هذا التقرير، من سمارت فاينانس، نستعرض كيف نجحت مصر في تأمين كميات ضخمة من الغاز لتجنب انقطاع الكهرباء، وكيف تحولت إلى مركز إقليمي للطاقة رغم التحديات.
أزمة طاقة هددت الاستقرار
وفي السنوات الأخيرة، واجهت مصر تحديات كبيرة في قطاع الطاقة، وتراجع إنتاج حقل "ظهر"، أكبر حقل غاز في البحر المتوسط، إلى ما يقرب من الثلث بسبب صعوبات فنية، مما زاد من الضغط على الإمدادات المحلية.
وتزامن ذلك مع ارتفاع الطلب المحلي على الكهرباء، مدفوعًا بالنمو السكاني والتوسع الصناعي، ومع توقف إمدادات الغاز من إسرائيل لفترة وجيزة، اضطرت مصر إلى إلغاء شحنات نفطية بقيمة ملايين البراميل لتغطية العجز.
وهذه الأزمة هددت بتعطيل الإنتاج الكهربائي، الذي يعتمد بنسبة كبيرة على الغاز الطبيعي، حيث يشكل الغاز الإسرائيلي حوالي 15% من إنتاج الكهرباء في مصر.
خطة شاملة لتأمين الغاز
ولم تقف مصر مكتوفة الأيدي أمام هذه التحديات، فقد تبنت الحكومة استراتيجية متعددة الأوجه لتأمين إمدادات الغاز وضمان استمرارية الكهرباء، وأولى هذه الخطوات كانت تعزيز استيراد الغاز الطبيعي المسال (LNG).
وأعلنت مصر عن تأمين كميات ضخمة من الغاز المسال لتلبية احتياجات محطات الكهرباء، مما سمح لها بالتخلي عن أكثر من مليوني برميل من النفط الخام.
وأكد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أن مصر طورت منظومة مستقرة لتأمين الغاز لمدة خمس سنوات، بفضل استخدام سفن التغويز كحل مؤقت حتى استعادة الحقول المحلية لإنتاجها.
وبالإضافة إلى ذلك، عملت مصر على تنويع مصادر الطاقة، حيث تعاونت الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) مع شركات عالمية مثل "إيني" الإيطالية لتكثيف التنقيب عن حقول جديدة في البحر المتوسط، بهدف إضافة 2.2 تريليون قدم مكعبة إلى مخزون الغاز خلال العام المالي 2025-2026.
كما أعلنت وزارة البترول عن نتائج واعدة للبئر التقييمي "بيجونيا-2" وبدء إعادة إكمال بئر "بلسم-3" في دلتا النيل، مما يعزز الاحتياطيات المحلية.

التعاون الدولي مفتاح النجاح
ولم تكتف مصر بالاعتماد على مواردها الداخلية، بل سعت لتعزيز التعاون الدولي لضمان استقرار إمدادات الطاقة.
وعلى سبيل المثال، وقعت مصر اتفاقيات مع قبرص واليونان لتطوير خط أنابيب تحت الماء يربط حقل "أفروديت" اليوناني بمصر، مما يعزز مكانتها كمركز تصدير للغاز إلى أوروبا.
كما ناقش رئيس الوزراء مع شركة "شل العالمية" تعزيز استثماراتها في السوق المصري لتطوير حقول الغاز، وهذه الشراكات لم تقتصر على الإنتاج فحسب، بل شملت أيضًا بناء البنية التحتية، مثل توسيع مرافق التخزين والتغويز.
التأثير على الكهرباء
ونجحت هذه الجهود في تحقيق استقرار ملحوظ في إمدادات الكهرباء، وبفضل تأمين الغاز المسال وسفن التغويز، تمكنت مصر من تلبية احتياجات محطات الكهرباء، مما حال دون انقطاع التيار الكهربائي خلال فترات الذروة.
ومع استمرار العمل على استعادة إنتاج حقل "ظهر" وتطوير حقول جديدة، تتوقع مصر تحسين الإنتاج المحلي، مما يقلل الاعتماد على الاستيراد في المستقبل.
كما أن الاستثمارات في الطاقة المتجددة، مثل مشروعات الطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر، تكمل هذه الجهود لضمان استدامة الطاقة على المدى الطويل.
مصر كمركز إقليمي للطاقة
ولم تكتف مصر بتأمين احتياجاتها المحلية، بل استطاعت أن تحول تحديات الطاقة إلى فرصة لتعزيز مكانتها الإقليمية، ومن خلال خطوط الأنابيب مع الدول المجاورة والاستثمارات الأجنبية، أصبحت مصر بوابة لتصدير الغاز إلى أوروبا، مما يعزز اقتصادها ويرسخ دورها كمركز طاقة إقليمي.
وهذا التحول لم يكن مجرد رد فعل على أزمة، بل نتيجة رؤية استراتيجية طويلة الأمد بدأت منذ اتفاقيات 2015 مع قبرص واليونان.
انتصار الإرادة والتخطيط
وفي معركة الطاقة، أثبتت مصر أن التخطيط الاستراتيجي والتعاون الدولي هما السلاح الأقوى، ومن خلال تأمين كميات ضخمة من الغاز المسال، وتطوير الحقول المحلية، وبناء شراكات إقليمية، نجحت مصر في تجنب شبح انقطاع الكهرباء وحولت التحدي إلى فرصة للنمو.
وهذه "الحرب من نوع آخر" ليست مجرد قصة نجاح اقتصادي، بل شهادة على قدرة مصر على الصمود والابتكار في مواجهة الأزمات، مما يجعلها نموذجًا يحتذى به في المنطقة.